الحقيقة
تقديــم المفهــوم:
يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه:"الاعتقادات
الراسخة هي عدوة الحقيقة، فهي أخطر من الأكاذيب"، يحيل هذا القول على أن ما
نعتقد وما نؤمن به كحقائق اكتسبناها في وقت ما، ومن مصدر معين، هي أوهام تضللنا
وتحجب عنا الحقيقة، وكلما زاد المرء ثقة فيها ازداد بعده عن الحقيقة، وهو ما يطرح
إشكالية الرأي وعلاقته بمفهوم الحقيقة. من جهة أخرى ولما كان الرأي هو الحقيقة
بالنسبة لصاحبه وجب البحث عن معيار يحدد الحقيقة بعيدا عن نسبية الآراء، وهو ما
طرح أيضا إشكالية خلفت تعارضا بين الفلاسفة، وذلك في شأن تحديد معيار ثابت
للمصادقة على الأفكار باعتبارها حقائق. بناء على ذلك يمكن القول أن الحقيقة كانت
وستضل مبحثا للعقل الإنساني، فهي تحتل قيمة كبيرة في فكر كل إنسان، سواء طلبها
لذاتها، أو من أجل قضاء مصالحه ومآربه.
ـــــ المحور الأول: الرأي والحقيقة:ــــــ
1) المعنى الدلالي لمفاهيم المحور:
· الرأي: إعتقاد متعلق
بتصديق أفكار أو وقائع، يكون خاصا بصاحبه، إذ يفتقر إلى الموضوعية التي يتواطأ
الجميع على صحتها.
·
الحقيقة: تعني الحقيقة من جهة الخصائص الثابتة التي تحدد ماهية الشيء، والتـي
لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وبذلك تكون الحقيقة في مقابل الأعراض التي تزول
وتتغير، ومن جهة ثانية تدل على الصدق والحق، في مقابل الكـذب والباطل.
2) إشكال
المحور:
يقول الإمام الشافعي:"رأيي صواب
يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، فهل نفهم من هذا الكلام أن
الرأي محكوم عليه بالخطأ؟ هل يمكن أن يكون الرأي دائما عدوا للحقيقة؟ ألا يمكن
اعتباره شرطا من شروط بلوغها؟
3) قيمة الرأي في ميزان الحقيقة:
أولا: تحليل
النص:
تحليل نص غاستون باشلار Gaston, Louis, Pierre Bachelard (1884 ـــــــ
1962)، ص من كتاب في رحاب الفلسفة.
أ)
أطروحة النص:
يتعارض الرأي مع الحقيقة، بل إنه عائق يحول دون بلوغها، لذلك يعد التخلص منه
مرحلة ضرورية لبناء معرفة يقينية، وعدم الاكتفاء بتعديله.
ب)
البنية
الحجاجية للنص:
صاغ صاحب النص
أفكاره اعتمادا على مجموعة من الأساليب الحجاجية، تذكر منها:
أسلوب
المقارنة: قارن بين الرأي والعلم فخلص إلى ما يلي:
الــــــــــــــرأي
|
العـــلــــــــــــــــــم
|
تفكير سيء
لا يفكر
مرتبط
بالمصلحة
عائق وجب
تخطيه
|
يشترط الفهم
ينطلق من
أسئلة واضحة الصياغة
يرفض
التلقائية
ليس معطى
جاهزا بل هو بناء
|
أسلوب النفي: نفى صاحب النص
تأسيس الحقيقة على الرأي، فنفى ضمن ذلك تصحيح الرأي أو تعديله.
أسلوب
التأكيد: أكد على أن
المنهج العلمي يقتضي الانطلاق من أسئلة واضحة لبناء نتائج دقيقة، فالمعرفة العلمية
ليست تلقائية بقدر ما هي تخطيط مسبق.
ج)
استنتاج:
نستنتج انطلاقا مما سبق أن الرأي بحمل خصائص
تتنافى مع خصائص العلم، لذلك يعتبر عائقا أمام بلوغ الحقيقة العلمية، فذاتية الرأي
تحول دون بلوغ موضوعية المعرفة العلمية.
ثانيا: تحليل
النص:
1) موقف ديكارتR.Descartes 1596-1650. "مباهج
الفلسفة" ص104.
وضع ديكارت منهجا صارما لبلوغ اليقين، جعل
الشك الخطوة الأولى الضرورية في سبيل ذلك، فدعا إلى الشك في كل فكرة لا تستند إلى
اليقين الكافي الذي يسمو بها إلى مستوى الحقيقة. وعملا بذلك وجب الشك في كل الآراء
التي يتلقاها المرء منذ صغره دون أن يعلم لها مصدرا.
إن الرأي لا بمكنه أن يحل محل
الحقيقة ما دام لا يتأسس على الوضوح العقلي الذي تشترطه الحقيقة، فديكارت يشترط
اتخاذ المعارف الحدسية والبديهية أساسا يتم
استنباط باقي المعارف من خلالها، عن طريق استدلال عقلي دقيق وصارم. وما لم
تتمتع الأفكار بذلك وجب اعتبارها خاطئة إلى أن يثبت العكس.
2) موقف لايبنيز
Leibniz(1646ـ 1716)، "منار الفلسفة" ص
105.
يرى لايبنيز أن الرأي القائم على
الاحتمال قد يرتقي إلى مستوى المعرفة، فبدل أن نرفض الرأي بشكل قطعي، كان الأجدر
أن نبحث عن علم يحدد درجات الاحتمال، إذ أن هناك مسائل لا نستطيع الجزم فيها
باعتماد العلوم المتوفرة لدينا، وهذا ما يفرض احتمالات قد تتفاوت في درجتها، وتكون
مبنية على معطيات متوفرة لدينا.
إن رفضنا للرأي سيؤدي إلى إقصاء
مجموعة من المعارف التي نتوفر عليها، والتي تعتمد في جزء منها على الرأي، منها
مثلا المعرفة التاريخية.
وقد قدم لايبنيز مثالا لرأي قائم
على الاحتمال، والذي كان له دورا كبيرا في تاريخ العلوم، وهو رأي كوبرنيك الذي كان
مخالفا لجميع آراء معاصريه، لكنه كان هو الأصوب.
ثـالثا: مستوى
التركيب:
تباينت
مواقف الفلاسفة حول تقدير قيمة الرأي في بناء المعرفة، فإذا كان ديكارت وباشلار
يعتقدان أن الرأي يتعارض مع الحقيقة، لذلك وجب التخلص منه والتشكيك فيه، فإن
لايبنيز يرى في مقابل ذلك أن الرأي القائم على درجة عليا من الاحتمال يمكن أن يشكل
معرفة. من خلال ذلك يمكن أن نلاحظ بأن الرأي لا يكون مقبولا إلا إذا توفرت فيه
الشروط العلمية، فلايبنيز لم يدعو إلى اتخاذ الرأي العام بديلا عن المعارف، بقدر
ما دعا إلى تطويره وإخضاعه لمعايير رياضية.
ـــــ المحور الثاني: معايير الحقيقة:ـــــــ
1)إشكال
المحور:
ورد عن
رواد الفلسفة الإسلامية تعريفهم للحقيقة بكونها "مطابقة ما في الأذهان،
لما في الأعيان"، فهل يمكن أن نفهم من ذلك أن معيار الحقيقة هو مطابقة
الفكر للواقع؟ أم أن المعيار الأمثل لمعرفة ما هو حقيقي هو مطابقة الفكر لنفسه؟ أي
الاتساق المنطقي للفكر دون مراعاة تطابقه مع الواقع؟
2)الحقيقة بين
المعيارين المادي والصوري:
أ) موقف كانطKant ، "منار الفسفة" ص
109.
اشترط كانط في معيار الحقيقة أن يكون كونيا، أش شاملا ثابتا لا يتغير بتغير
المواضيع، وذلك حتى يتلاءم مع طبيعة الحقيقة المطلقة. فقارن في ظل ذلك بين
المعيارين المادي ـــــ تطابق الفكر مع الواقع ـــــ والمعيار الصوري ـــــ تطابق
الفكر مع نفسه ــــ. ليخلص إلى أن المعيار المادي لا يصلح كمعيار للحقيقة، لعدم
توفر الشرط المذكور فيه. أما المعيار الصوري فهو الأنسب للحقيقة لكونه معيارا
كونيا. فهو لا يأبه بنسبية الواقع وتغيره، بل إنه يقوم على القياس العقلي المنطقي،
الذي يقارن بين الأفكار وفق قواعد عقلية.
3) موقف ديفيد هيوم D. Hume
(1711ـ 1776)،"مباهج الفلسفة" ص 111.
يقسم هيوم معايير الحقيقة إلى صنفين، بحسب
أنواع الحقائق؛ فهناك حقيقة عقلية، يكون المعيار فيها مراعاة اتساق الأفكار
فيما بينها، وعدم تناقضها، وهناك حقيقة واقعية، يكون المعيار فيها هو
انسجام الأفكار مع الواقع.
فالنوع الأول يشمل علوم الهندسة والجبر والمنطق وكل ما له علاقة بالبرهان
العقلي، بالتالي فقد لا يكون لقضية ما مقابلا في الواقع، لكن تبقى صحيحة مادامت
العلاقة بين أطرافها منطقية وليس بينها تناقض، أما النوع الثاني فإن الفكرة ينبغي
أن تكون مطابقة للواقع، بالتالي يكون من السهل التأكد من فكرة ما، كما أن التناقض
ممكن في هذا النوع.
4) موقف باروخ اسبينوزاB.Spinoza،
"في رحاب الفلسفة" ص 63.
تتسم الحقيقة بالبداهة والوضوح التامين الذين
يغنيانها عن أي معيار خارجها. فالحقيقة أوضح من أي معيار قد يؤكدها أو ينفيها،
لذلك فمن يمتلك فكرة صحيحة وواضحة يكون امتلاكه لها كافيا ولا يحتاج إلى أي معيار.
ولتقريب هذا المعنى شبه اسبينوزا الحقيقة بالنور، فانكشاف النور هو الدليل الوحيد
على وجوده، فلا يوجد ما هو أوضح منه حتى يدل عليه. وكما أن النور يوضح ذاته ويكشف
عن الأشياء من حوله، كذلك الحقيقة هي معيار لذاتها ومعيار للخطأ.
ثالثـا: خلاصة
واستنتاج
من
خلال النماذج التي قدمناها، يتضح بأن مواقف الفلاسفة شهدت تعارضا كبيرا في تحديد
معيار للحقيقة، فقد تعددت المعايير بتعدد مواقف ووجهات نظر الفلاسفة، وإن دل هذا
على شيء، فإنما يدل على نسبية الحقيقة، فليست هناك حقيقة مطلقة يمكن أن نضع لها
معيارا مطلقا.
ـــــ المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة:ـــــــ
1)إشكال
المحور:
من أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ هل ترتبط هذه
القيمة بمقدار المنفعة التي تحققها؟ أم أن الإنسان يتشبث بما يسميه حقيقة من أجل
حفظ البقاء وتجنب الصراع؟ ألا يمكن أن تكون للحقيقة قيمة مثالية خالية من كل
مصلحة؟
2)البعد
النفعي للحقيــقة:
5) موقف وليام جيمسW.James(1842ـ
1910)، "منار الفلسفة" ص 112.
تدافع النزعة البرغماتية بزعامة
وليام جيمس عن أطروحة مفادها أن الحقيقة ليست صفة تحملها الأفكار في ذاتها، أي أن
الفكرة لا تحمل حقيقتها في ذاتها، بل تستمدها من خلال تحققها في الواقع، مما يتيح
لنا الانخراط فيها والتأكد منها واستشعارها بناء على النتائج الواقعية التي تترتب
عنها، وانعكاسها على حياة الفرد اليومية.
بناء على ذلك فلا قيمة للحقائق
المجردة التي تبقى حبيسة التفكير، ولا توجد إمكانية لتفعيلها، فسواء كانت هذه
خاطئة أو صحيحة فإن ذلك لا يغير شيئا في حياتنا.
6) موقف فريديريك
نيتشه F.Nietzsche (1844ـ 1900)،"منار
الفلسفة" ص 114.
يرى نيتشه أن الحقيقة تولدت لدى الإنسان بفضل
رغبته في تجنب الصراع، وسعي كل فرد لمسالمة الآخرين، لذلك يتفق الناس على ما
يعتبرونه حقيقة، وهو في الأصل وهم، ينسى الإنسان مع مرور الزمن أنه كذلك. فما نسميه حقيقة حسب نيتشه هو جملة
من الاستعارات والخطابات البلاغية التي تعبر عن مجموعة من القيم الأخلاقية السامية
التي تحدد العلاقات بين الناس، فالإنسان يميل إلى الوهم ويتجنب الحقيقة
التي تكون دائما هدامة. وبناء عليه فلا تحمل الحقيقة أية قيمة تذكر ما دامت تعبر
عن مجموعة من الأوهام.
7) موقف إيمانويل
كانط، "مباهج الفلسفة" ص 112.
تتسم الحقيقة حسب كانط بقيمة أخلاقية مثالية، بالتالي فهي تتأسس على الواجب
الأخلاقي، لا على انعكاسها على الواقع وارتباطها بالمنفعة، فقول الصدق مثلا لا
يراعي الظروف التي يقال فيها، والتي تبرر الكذب في بعض الحالات، وإنما يرتبط
بالواجب الذي يفرض الصدق بغض النظر عن النتائج المترتبة عن ذلك.
إن الحقيقة بهذا المعنى واجب تتأسس عليه باقي الواجبات التي تقوم عليها
القوانين، لذلك كانت للحقيقة قيمة ذاتية مستقلة عن أي مصدر خارجي عنها من شأنه أن
يحدد هذه القيمة. فقيمة الحقيقة مطلقة ومتعالية عن نسبية الزمان والمكان.
ثالثـــا:
مستوى التركيب
تباينت
مواقف الفلاسفة إزاء قيمة الحقيقة، فإذا كانت النزعة البرغماتية قد ربطت هذه
القيمة بالمنفعة، وإذا كان نيتشه قد رأى بأن الإنسان يضفي على الحقيقة قيمة مزيفة،
فإن كانط قد نحى منحى مغايرا في تصوره لقيمة الحقيقة، ورأى بأن الحقيقة تتمتع
بقيمة أخلاقية يفرضها الواجب، وبين هذا التعارض في الآراء، تعبر قيمة الحقيقة عن
إشكال آخر ينضاف إلى مجموع الإشكالات التي تنطوي تحت سؤال: ما الحقيقة؟