ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلوم الإنسانية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقديــم المفهــوم:
يتميز
الإنسان عن غيره من الكائنات بثراء نشاطاته، وفاعليته التي ترسم ملامح أبعاده
ومجالات اشتغاله، لذلك كان لزاما على من أراد فهمه الإحاطة بتلك الأبعاد المختلفة،
من حالات نفسية، وعمليات عقلية، ونشاطات اجتماعية، وإبداعات حضارية وغيرها.
بالتالي فقد وُضع الفلاسفة أمام إشكالية معرفة الظاهرة الإنسانية، فالخوض في حقيقة
الإنسان يرتطم بمسألة موضعة الظاهرة الإنسانية، ذلك أن طبيعة الموضوع المفكّر فيه
في هذه الحالة من نفس طبيعة الذات المفكرة. إضافة إلى أن هذه الظاهرة ــــ وعلى
عكس الظواهر الطبيعية ــــ دائمة التغير، وتتدخل فيها الذات الفاعلة بشكل يصعب معه
تفسيرها، وتحديد قوانين ثابتة لها.
وإذا ما بحثنا عن جوهر الإشكاليات السالفة الذكر،
وأسبابها، سنقف على الإشكالية المحورية التي تعترض سبيل العلوم الإنسانية، ويتعلق
الأمر بالجانب المنهجي ، ذلك أن هذه العلوم حديثة التأسيس، وقد اعتمد روادها
بالأساس على مناهج العلوم الدقيقة، لكن اختلاف موضوع النوعين من العلوم صعب
مأمورية العلوم الإنسانية.
فهل تستوفي العلوم الإنسانية الشروط التي ترقى
بها إلى مستوى العلمية؟
المحور الأول: موضعة الظاهرة الإنسانيةـ:
1) إشكال المحور:
تعد الموضوعية أحد أهم شروط إنتاج معرفة علمية تتوخى الدقة، ويتمثل ذلك في
النظر إلى الموضوع في حياد تام، ودون اعتبارات ذاتية. لكن عندما تعلق الأمر
بالعلوم الإنسانية وجدنا الموضوع من نفس طبيعة الذات.
فهل يمكن موضعة الظاهرة الإنسانية؟ ألا يحول تداخل الذات والموضوع دون ذلك؟
2) عوائق وشروط موضعة الظاهرة الإنسانية:
أولا: تحليل النص:
تحليل نص جان بياجيJ.Piaget (1896ـ 1980) ص 85 من كتاب "في رحاب الفلسفة".
Ø أطروحة النص:
يعتبر
تداخل الذات والموضوع أحد أهم العوائق التي تحول دون موضوعة الظاهرة الإنسانية،
ويتجلى ذلك في عدم القدرة على الفصل بين الذات العارفة والذات المتمركزة حول ذاتها
من جهة، وميل العالم إلى الاعتقاد بمعرفته بالظاهرة حدسيا من جهة ثانية.
Ø البنية الفاهيمية للنص:
ü
الموضوعية: يقصد بها فصل
الذات العارفة عن موضوع معرفتها، أي النظر إلى الموضوع بهدف بلوغ حقيقته، عبر
إزاحة العوامل الذاتية المتعلقة بمذهب فلسفي أو بإيديولوجيا معينة.
ü
تمركز الذات: جعل الذات
بكل ما تحمله من مواقف ومعتقدات مرجعا للنظر إلى المواضيع، وبالتالي إسقاط أفكار
جاهزة تشوه حقيقة الموضوع، وتحول دون بلوغ حقيقته.
ü معرفة حدسية: هي المعرفة التي يعتقد العالم أنه يبلغها بدون اعتماد وسائط، كالمنهج التجريبي مثلا. فيعتقد بعدم حاجتها إلى هذا المنهج لشدة وضوحها.
Ø العوائق الابستمولوجية للعلوم الإنسانية:
وقف جون بياجى على سببين أساسيين يحولان دون تحقيق
معرفة موضوعية بالظاهرة الإنسانية:
السبب الأول:
يتمثل في صعوبة النظر إلى الموضوع دون إقحام الذات، فالعالم تتداخل لديه الذات
المتمركزة مع الذات العارفة بشكل لا يتيح له التمييز بين الحقائق المنتمية
للموضوع، وبين الأفكار والمعتقدات التي يحملها.
السبب الثاني: لما كان العالم ينتمي إلى الموضوع، على اعتبار أن الموضوع في العلوم الإنسانية هو الظاهرة الإنسانية، كان يرجح الحدس في معرفته على الملاحظة التجريبية، فيقلل من أهمية المناهج العلمية الصارمة.
Øاستنتاج:
يمكن القول بناء على ما سبق أن صعوبة موضعة
الظاهرة الإنسانية تكمن بالأساس في تطابق الذات مع الموضوع، مما يجعل النظر إلى
الموضوع مغلفا بالخلفيات الفكرية للذات.
ثانيا: المناقشة:
Ø موقف ليفي ستروس Levi-strausse 1908 ـ 2009): ص 85 من كتاب "منار الفلسفة"
النص : " إذا كانت
العلوم الاجتماعية والانسانية علوما بالفعل، فينبغي عليها أن تحافظ على ثنائية
الملاحِظ والموضوع الملاحَظ، وأن تعمل على نقلها إلى داخل الإنسان، وبذلك تترسخ
القطيعة التي تفصل بين الانسان الملاحِظ والإنسان الملاحَظ أو الناس الملاحظين...
فإن هي أرادت أن تتخذ من العلوم الحقة والطبيعية نموذجا لها، فلا ينبغي أن تتخذ
الناس الذين تتخذهم موضوعا لتجربتها فحسب، بل ينبغي أيضا ألا يشعر هؤلاء بأنهم تحت
موضوعات للتجربة، وإلا غير حضور وعيهم مسار التجربة بطريقة غير مرئية..."
يقوم أي بحث علمي على ثنائية تحدد بوضوح موقع كل من الملاحِظ والموضوع
الملاحَظ، لذلك وجب على العلوم الإنسانية أن تتحاشى التداخل بين الذات
الملاحظة (العالِم)، وموضوع ملاحظتها (الناس). فلكي تبلغ العلوم الإنسانية مستوى
العلوم الدقيقة والطبيعية يجب أن تحافظ على ثنائية ذات/موضوع، ومن أجل ذلك ينبغي
أثناء ملاحظة الظاهرة عدم إشعار الفئة المستهدفة بأنها تحت الملاحظة، وذلك لئلا يغير
أفرادها من سلوكهم، لأنهم كائنات واعية، والوعي هو أحد أهم العوائق التي تحول دون
استقرار الظاهرة، مما يصعب مهمة الدارس.
Ø موقف إيميل دوركايم Émile Durkheim(1858ــ
1917).
النص : "...قد يغلب
الطابع الشخصي على الإحساس، وهذا ما دعا إلى عدم استخدام المدركات الحسية التي
يحتمل أن يغلب عليها الطابع الشخصي لدى من يقوم بملاحظة الظواهر. وهي القاعدة التي
تنص على الاعتماد فقط على تلك المدركات الحسية التي تنطوي على الطابع الموضوعي إلى
حد فيه الكفاية. فمثلا نرى أن عالم الطبيعة يستعيض بالإحساسات الغامضة التي يثيرها
لديه الطقس أو الكهرباء بملاحظته للذبذبات التي يسجلها كل من الترمومتر و
الإليكترومتر (مقياس الكهرباء) وحينئذ يجب على عالم الاجتماع أن يحترم هذه
القاعدة. ومن الواجب أن تكون الخصائص الخارجية التي يستعين بها العالم على تحديد
موضوع بحثه أقرب ما يمكن إلى الواقع." ص
18/17 من كتاب "قواعد المنهج في علم الاجتماع" أيميل دوركايم.
دعا إيميل دوركايم ــــــ بوصفه أحد أكبر
رواد علم الاجتماع ــــــ إلى ضرورة النظر إلى الظواهر الاجتماعية بطريقة موضوعية،
من خلال عدم التركيز على الخصائص الذاتية، وتسليط الضوء على الخصائص الواقعية
للظاهرة. ولن يتحقق ذلك إذا اعتمد العالم على المدركات الحسية الشخصية التي تدفع
العالم إلى التفاعل مع موضوع بحثه، بل يجب الاعتماد على المدركات الحسية التي تتخذ
طابعا موضوعيا، كما يفعل ذلك العالم أثناء معالجته للظاهرة الطبيعية، فهو لا يتأثر
بالطقس بقدر ما يركز اهتمامه على النتائج التي يسجلها التيرمومتر.
بناء على ذلك يمكن القول أن دوركايم يؤمن
بموضة الظاهرة الإنسانية (الاجتماعية بالتحديد) إذا ما تم التعامل معها بالصرامة
المنهجية المطلوبة.
ثالثا:
التركيــــب:
يتضح من خلال ما سبق، أن العلوم الإنسانية اعترضتها إشكالية ابستمولوجية متمثلة في صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية، وقد نجم ذلك عن صعوبة فصل الذات عن الموضوع في علوم تعتبر فيها الذات هي نفسها الموضوع.
المحور الثاني: التفسير والفهم في العلوم
الإنسانية:
1) إشكال
المحور:
يحيل التفسير في العلوم الطبيعية على الكشف عن الأسباب الكامنة وراء
الظواهر، مما يتيح التنبؤ بها، بحيث إن توفر مجموعة من الشروط يفضي إلى نتيجة
حتمية، بغض النظر عن مكان وزمان حدوث ذلك، فهل يمكن تحقيق ذلك في علوم تتخذ من
الكائن العاقل موضوعا لها؟ أم أن العلوم الإنسانية تحاول فهم الظواهر دون تفسيرها؟
2) الظاهرة الإنسانية بين التفسير والفهم:
Ø موقف غاستون غرانجيG.Granger (1920ـ ...) "مباهج الفلسفة" ص 89.
النص : "
...إن التفسير منهج العالم الفيزيائي الذي يختزل مجموعة معقدة من الظواهر إلى
منظومة بسيطة من العلاقات تشكل ترسيمة أو خطاطة صورية للظاهرة موضوع الدراسة. ولا
يتساءل العالم عن علة مثل تلك العلاقات الأولية...لأن ذلك سيتجاوز نطاق العلم،
ويلتحق بالأسطورة أو السحر.
بيد أن
الأمر على خلاف ذلك في الأفعال والحوادث الإنسانية. فهاهنا لا نفسر الأفعال، بل
نسعى إلى فهمها، بمعنى نرمي إلى أن ننقل بصورة حدسية إحساسا أو تقديرا أو انفعالا
ما. والمعرفة التي تتأسس على الفهم فقط هي معرفة مسرفة في مقتضياتها ومطالبها
ومقصرة فيها بآن واحد."
إن العلوم الفيزيائية تفسر ظواهرها من خلال اختزالها إلى أسباب وعلاقات أولية،
دون أن تخوض في العلة الغائية لتلك العلاقات، على اعتبار أن العلم يتساءل عن كيفية
حدوث الظاهرة، لا عن العلة التي تجعلها تحدث بهذه الطريقة دون تلك، لأن سؤالا من
هذا القبيل سيتجاوز نطاق العلم. أما العلوم الإنسانية، فهي لا تستطيع اختزال الفعل
الإنساني بنفس الطريقة، والتعبير عن العلاقات الكامنة بين الظواهر الإنسانية
بطريقة علمية ورياضية، لذلك يحاول العلماء تأويل الظاهرة من أجل فهمها، وهو الأمر
الذي يجعل هذه العلوم مبالغة في طموحها، ومقصرة في وسائلها، أي أنها تطمح لفهم
جوهر الظاهرة دون أن تمتلك مناهج تعادل في دقتها ونجاعتها ذلك الطموح.
Øموقف فيلهلم
دلتاي Wilhelm Dilthey (1833 ــــــ 1911) "في رحاب الفلسفة"
ص 88
ينتقد دلتاي اعتماد علم النفس على مناهج
العلوم الفيزيائية التي تستخدم الفرضيات، ويرى في مقابل ذلك وجوب البحث عن مناهج
خاصة بالعلوم الروحية (العلوم الإنسانية)، بالتالي فليس من الضروري أن تبحث العلوم
الإنسانية عن تفسير ظواهرها والتنبؤ بنتائج دقيقة كما هو الشأن بالنسبة للعلوم
الطبيعية. لذلك يرى دلتاي أن المناهج التي
ينبغي اعتمادها في العلوم الإنسانية تقوم على الفهم، وليس على التفسير، فيقول في
هذا الصدد "نفسر الطبيعة، ونفهم الحياة النفسية"، أي أن منهج العلوم
الإنسانية هو منهج تفهمي، يتلاءم مع طبيعة الظواهر الإنسانية، التي تتسم بالذاتية
والفردانية والنسبية.
Øموقف إميل دوركايمE.Durkheim (1858ـــــ1917).
النص: "...ومهما يكن من شيء فإن الظاهر
الاجتماعية "أشياء"، ويجب أن تدرس على أنها "أشياء". وإذا
أردنا البرهنة على هذه القضية فلسنا في حاجة إلى دراسة طبيعة هذه الظواهر دراسة
فلسفية. فيكفي أن نعلم أن هذه الظواهر هي المادة الوحيدة التي يمكن اتخاذها كموضوع
لعلم الاجتماع. فالشيء هو حقيقة ما يقع تحت ملاحظتنا، وهو ما يقدم نفسه لها، أو
بالأحرى ما يفرض نفسه عليها فرضا... وحينئذ فمعنى أننا نعالج الظواهر على أنها
"أشياء" هو أننا نعالجها على أساس أنها أشياء تقدم نفسها للملاحظة كنقطة
بدء للعلم. ولا ريب في أن الظواهر الاجتماعية تنطوي على هذه الخاصية." ص 90 من كتاب "قواعد المنهج في علم الاجتماع" أيميل دوركايم.
إن المسألة التي تعرقل إمكانية تفسير الظواهر الإنسانية هي النظر إليها كظواهر
صادرة عن ذوات عاقلة، لذلك أثبت دوركايم في سياق تحديده للظواهر الاجتماعية أن هذه
الظواهر هي عبارة عن أشياء خارجية، أي أنها وقائع مستقلة عن ذواتنا، لذلك يجب
الوقوف عند ما يتبدى منها للملاحظة، وجعله نقطة انطلاق للبحث فيها، بالتالي تفسير
الظاهرة تفسيرا وضعيا، بعيدا عن اللجوء للاستبطان،
والتفهم الذاتي للظواهر الاجتماعية، ويدعو في المقابل إلى نهج طرق علمية في البحث
لتفسير الظواهر، من استقراء وإحصاء وغيرها، على غرار العلوم الطبيعية التي تموضع
الظواهر المدروسة وتخضعها لقياسات صارمة، ولا تلجأ إلى المعاني العامة التي يكونها
الناس عنها، والتي تترسخ في أذهانهم.
3) التركيب
اختلفت
التصورات في وضعية العلوم الإنسانية بين الفهم والتفسير، فإذا كان غرانجي ودلتاي
قد اتفقا حول عجز العلوم الإنسانية على تفسير ظواهرها، والاكتفاء في المقابل
بالفهم، فإن رواد النزعة الوضعية يدافعون عن إمكانية دراسة الظواهر الإنسانية
باعتماد مناهج العلوم الطبيعية التي تتيح تفسير الظاهرة والتنبؤ بالنتائج. وهو ما
يطرح التساؤل الأساسي في هذه الإشكالية، ويتعلق الأمر بمدى إمكانية دراسة الظواهر
الإنسانية بمناهج العلوم التجريبية؟
المحور الثالث: نموذجية العلوم التجريبية:
1) إشكال المحور:
كانت محاولة المماثلة بين الظواهر الاجتماعية
والظواهر الطبيعة إحدى أهم الغايات التي أراد رواد علم الاجتماع بلوغها، وذلك حتى
يتسنى معالجة هذه الظاهر بمناهج علمية صارمة، كما هو الشأن بالنسبة لمعالجة
الظواهر الفيزيائية. لكن الأمر طرح مجموعة من الصعوبات المتمثلة أساسا في وجود
فاعل خلف الظاهرة الاجتماعية باعتبارها ظاهرة إنسانية. فهل حال ذلك دون اتخاذ
العلوم التجريبية نموذجا للبحث في علم الاجتماع؟ أم أن الظواهر الاجتماعية مستقلة
عن الأفراد؟
2) دواعي الاقتداء بالعلوم التجريبية وصعوباته.
Øموقف إميل دوركايمE.Durkheim (1858ـــــ1917). "منار الفلسفة" ص 93.
قبل الحديث عن مناهج كفيلة بالبحث في
المجتمع البشري، يرى إميل دوركايم أن الأولى بالنسبة لعلم الاجتماع تحديد موضوع
بحثه، ذلك أن الناس قد اعتادوا إطلاق إسم الظاهرة الاجتماعية على كل الظواهر
الإنسانية، من أكل ونوم وتفكير... لما كان علم الاجتماع متخصصا في الظواهر
السوسيولوجية بصفة خاصة، لا الإنسانية بصفة عامة، فإن موضوعه يتحدد أساسا في
الظواهر الخارجة عن نطاق الفرد، بل تلك التي تفرض على الفرد سلوكا معينا من جهة،
وتخرج عن سلطته من جهة ثانية، مثلا الواجب الاجتماعي المفروض على الفرد كمواطن أو
كزوج أو كأخ أوغير ذلك، ليس من تحديد الفرد، بل من تحديد المجتمع. بالتالي فأبرز
خاصية للظاهرة الاجتماعية هي خاصية القهر، فبواسطتها نستطيع الخروج من نطاق الفرد
الذي تختص السيكولوجيا والعلوم الطبيعية بدراسته، إلى المجتمع الذي يختص بدراسته
علم الاجتماع. ومن هنا يمكن اتخاذ العلوم التجريبية كنموذج لمعالجة هذه الظاهرة
الاجتماعية.
Ø موقف لادرييرladriere
(1921ـ 2007)."منار الفلسفة" ص
94.
ينطلق الفيلسوف البلجيكي لادريير من السؤال
الإشكالي التالي: هل بإمكاننا دراسة ظاهرة إنسانية، التي يكون فيها الإنسان فاعلا،
بمناهج العلوم الطبيعية، التي تكون موضوعاتها مادية.
إذا اعتبرنا الواقعة الإنسانية أو الظاهرة
الاجتماعية كشيء، بالتالي درسناها وفق المماثلة الصورية بين الأنساق المادية
والظواهر الاجتماعية، التي تقتضي الاعتماد على مناهج العلوم الطبيعية، فإننا
سنُغفل العلل الحقيقية لهذه الظواهر، ألا وهي فعل الفاعل الذي يمثل مجموع النوايا
والقيم، ومن خلال ذلك سنكون قد أغفلنا الوجه الداخلي للظاهرة، والذي يعتبر جوهرها.
لهذا نجد أنفسنا أمام إمكانية أخرى، وهي ابتكار أداة أصيلة للتحليل، أو منهج يصلح لتحليل موضوع تراعى فيه الدوافع والأهداف والقيم التي تتميز بها الظاهرة الإنسانية.
3) خلاصــــــة:
يتضح
من خلال التعارض بين الموقفين السابقين، أن علم الاجتماع الذي يعتبر نموذجا للعلوم
الإنسانية قد وجد صعوبة منذ ظهوره في تحديد موضوعه بدقة من جهة، وفي النموذج الذي
ينبغي الاحتذاء به من جهة أخرى، فإن كان بعض السوسيولوجيين قد استهوتهم مناهج
العلوم الفيزيائية، وأرادوا دراسة الظاهرة الإنسانية وفقها، فإن البعض الآخر قد
رأى ضرورة الاعتماد على منهج يتلاءم وطبيعة الظاهرة الإنسانية.
ولعل
هذا التضارب يوحي بضرورة تعميق البحث عن مناهج للعلوم الإنسانية، تكون قادرة على
الخروج بنتائج دقيقة للأبحاث التي تتخذ من الإنسان موضوعا لها، وذلك بمواجهة
الإكراهات المتمثلة أساسا في عدم استقرار الظاهرة الإنسانية.