المحور الثالث: العلاقة مع الغير.
1) إشكال المحور:
لا يمكن للشخص العيش دون ربط علاقات بالغير، فالوضع البشري يتميزبالحياة الاجتماعية التي ينسج فيها الأفراد علاقات متشعبة مع أشباههم. وبذلك نجد العلاقة بالغير تتخذ أشكالا متنوعة ومختلفة، تصل بعضها إلى التقرب من الغير وجعله شرطا أساسيا لهناء وسعادة الذات، وتصل أخرى إلى النفور من الغير والنظر إليه كعدو يفسد الحياة ويعكر صفوها.
فما أساس العلاقة بالغير؟ هل هي علاقة إيجابية تحكمها الصداقة والغيرية؟ أم أنها علاقة صراع من أجل إثبات الذات على حساب الآخر؟
2) مواقف الفلاسفة:
أ) موقف أرسطو(الصداقة):
عالج الفيلسوف اليوناني الكبير "أرسطو" موضوع العلاقة بالغير في نموذج الصداقة، فالصداقة هي المثال الأبرز لرقي العلاقة مع الغير، وهي حسبه فضيلة من الفضائل الإنسانية، والتي تكتمل معها طبيعة الإنسان، فالافتقار إلى صديق هو ضرورة طبيعية. بناء على ذلك فلا يمكن الاستغناء عن الغير في كل المراحل العمرية، وفي كل الحالات والظروف الاجتماعية، فنحن في حاجة إلى صديق ينصحنا في مرحلة الشباب، ويساعدنا في مرحلة الشيخوخة، ويتم أعمالنا في حالة الغنى.
انطلاقا مما سبق اعتبر أرسطو أن الصداقة لا غنى عنها، وأن الإنسان مفطور كغيره من الحيوانات على الميل إلى الآخر، والاستناد عليه.
ب) موقف أوغست كونت(الانتقال من الأنانية إلى الغيرية):
رأى أوغست كونت أن العلاقة مع الغير تتأسس على فضل الإنسانية على كل فرد داخل المجتمع، فلم يكن من الممكن أن يحقق الفرد حاجاته ورغباته ويضمن بقاءه دون الاعتماد على ما قدمته له الإنسانية من خدمات، لذلك من الواجب على كل شخص أن يرد هذا الجميل من خلال تقديمما يستطيعه من خدمات للآخرين، لا الذين يعاصرهم فقط، بل للأجيال اللاحقة أيضا، مثلما استفاد هو من الأجيال السابقة.
وفي سياق ذلك دعا أوغست كونت إلى التخلي عن الأنانية، والانتقال إلى الغيرية، أي أن الشخص الذي يبحث بحكم غريزته الحيوانية عن مصلحته الشخصية لا يعدو سلوكه سلوكا همجيا.
ج) موقف ألكسندر كوجيف (جدلية العبد والسيد):
يستقي كوجيف موقفه من العلاقة بالغير من تصور هيغل لجدلية العبد والسيد، فيرى أن العلاقة بالغير لا تستقيم إلا في ظل صراع يهدف من خلاله كل من الأنا والغير إلى نفي الآخر وانتزاع الاعتراف بالذات، بحيث أن الصراع ينتهي إلى انتصار أحد الطرفين وانهزام الطرف الثاني، فيتحدد موقع كل منهما في العلاقة بينهما، بحيث يصبح المنتصر سيدا والمنهزم عبدا. وذلك لأن معرفة الأنا والوقوف على مميزاتها يتأتى عبر نفي الآخر، وإبراز التفوق عليه.
من خلال ذلك فمهما بدا على ظواهر العلاقات من احترام متبادل وتقدير للآخر إلا أن حقيقتها قائمة على هذا الصراع، ولن تهدأ العلاقة إلا بعد اعتراف الضعيف بقوة القوي، وبدون هذه الجدلية لا يمكن أن تستمر العلاقة بالغير.
3) خلاصة:
نخلص انطلاقا مما سبق إلى أن الكشف عن جوهر العلاقة بالغير أفرز تعارضا بين مواقف الفلاسفة، بحيث جعل منها البعض علاقة إيجابية قائمة على الصداقة والغيرية، ورأى فيها البعض الآخر علاقة قائمة على الصراع من أجل البقاء،ويعود سبب هذا الاختلاف إلى أن الإنسان مركب من الطبيعة الحيوانية الغنية بالغرائز التي تدعو إلى فرض السيطرة، ويحكمها مبدأ البقاء للأقوى، ومن الجانب الإنساني الذي يضم مختلف المبادئ والقيم السامية التي تدعو إلى احترام الآخر والتواصل معه.